******* النية والسلف ********
ولما كان أمر الإخلاص هذا شأنه ، كان السلف رضوان الله عليهم يتعاملون مع النية بحذر شديد ، جاهدين في تحصيل الإخلاص ما استطاعوا لذلك سبيلا
فقد أثر عن إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال : " أمر النية شديد " ،
ويحدث أحمد ابن داوود الحربي فيقول :" حدث يزيد بن هارون بحديث عمر بن الخطابرضي الله عنه ( إنما الأعمال بالنيات)
وأحمد بن حنبل جالس , فقال أحمد ليزيد : يا أبا خالد هذا هو الخناق " !! فانظر رعاك الله إلى هذا الخوف ثم انظر أين أنت منه وروي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال : " ما عالجتُ شيئا أشد عليّ من نيتي لأنها تتقلب عليّ " ،
وقيل لسهل التستري : أي شيء أشد على النفس قال : " الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب " !! ، ولذا فقد كانوا يستحبون أن يبدؤوا أعمالهم ومصنفاتهم دائما بالتذكير بالنية .
أنهم عرفوا وأيقنوا أن الإخلاص أساس كل شيء
حتى قال بعضهم : " من صحت بدايته صحت نهايته ومن فسدت بدايته فربما هلك "
بل قد ذهب بعض السلف إلى أبعد من ذلك بكثير فكشف عن معنى تربويا في قرارة نفسه فقال : " الفتور بعد المجاهدة من فساد الابتداء "
ويطل علينا آخر فيقول : " من صحت سريرته فاح عبيره وسعد الأنام بمسك طيبه "
وعباراتهم متنوعة تشير بمجموعها إلى شدة عنايتهم بهذا الأمر وطول عكوفهم عليه تدارسا وتنقيبا .
فمغرور والله كل من ظن في نفسه أنه قد حقق الإخلاص ، وجاهل من لبس الشيطان عليه ذلك ، فها هم أئمة السلف ، وعلماء الأمة ، يقولون فيه مقالا تضطرب له جنبات القلوب ، فأين منهم من ركن لتزيين الشيطان بأنه مخلص رشيد .
وقد أعرب عن هذا المعنى أيوب السختياني رحمه الله حين قال : " تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال " .
لا غرابة في هذا الخوف الشديد من هذا الداء العضال ،
فإن المرائي إذا نظر إلى الناس وقد فاتحوه بالخدمة والسلام وأكرموه في المحافل غاية الإكرام وسامحوه في البيع والمعاملات وقدموه في المجالس وآثروه بالمطاعم والملابس
، وتصاغروا له متواضعين ، وانقادوا له في أغراضه موقرين ،
أصابت النفس من ذلك لذة هي أعظم اللذات وشهوة هي أغلب الشهوات ،
فاستحقرت فيه ترك المعاصي والهفوات ،
واستلانت خشونة المواظبة على العبادات
، لإدراكها في الباطن لذة اللذات وشهوة الشهوات ، فهو يظن أن حياته بالله وبعبادته المرضيّة ، وإنما حياته بهذه الشهوة الخفية ، التي تعمى عن إدراكها العقول النافذة القوية
، ويرى أنه مخلص في طاعة الله ومجتنب لمحارم الله ،
والنفس قد أبطنت هذه الشهوة تزيينا للعباد وتصنّعا للخلق وفرحا بما نالت من المنزلة والوقار ، وأحبطت بذلك ثواب الطاعة وأجور الأعمال ، وقد أثبتت اسمه في جريدة المنافقين وهو يظن أنه عند الله من المقربين .
أوصى السلف رضي الله عنهم بالعناية الشديدة بأمر النية
وأسلفنا قول أحمد في ذلك حين قال : " أمر النية شديد "
وهذا المعنى الذي أوصى به يحيى بن كثير حين قال : " تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل " ،
وهو ذات الفعل الذي كشف عنه الثوري حين خاطب أهل عصره فقال : " كانوا يتعلمون النية للعمل ، كما تتعلمون العمل " .
وفي إخلاص ساعة نجاة الأبد ولكن الإخلاص عزيز ، كما قال السلف رضي الله عنهم
، فنسأل الله تعالى أن يلهمنا ويعلمنا الإخلاص إنه البر الكريم .